11 مايو 2019

المقبرة المائية




فى الرُبع الأول من عام 2019 وافق البرلمان اليونانى على قانون يسمح ببناء وإستخدام محارق الموتى فى اليونان، وذلك بعد أن طالت سنوات المعاناه للشعب اليونانى بسبب قلة المقابر التقليدية بعد أن زادت الكثافة السكانية فى المدن على مدى الخمسين سنة الماضية، وفى ظل أزمة المقابر كان أهل المتوفى يصطحبون جثته إلى بلغاريا لأن بها محارق للموتى، ويتصادف أيضاً أن العديد من الدول الأوروبية تصرح بالمحارق كوسيلة بديلة للمقابر التقليدية، لكن المجتمع الدينى فى اليونان كان يعارض فكرة المحارق إلى أن إستحالت أزمة المقابر إلى مشكلة تُؤرق المواطن اليونانى، ومن الطبيعى أن يواصل رجال الدين اليونانيين إعتراضهم على هذه المحارق حتى بعد موافقة البرلمان اليونانى على بناء محارق للموتى.
من هنا وجدت من واجبى أن ألفت النظر إلى إمكانية بناء مقابر مائية لا تتعارض مع تقاليد الدفن لمعظم الشعوب، كما أنها لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الأرض، والأهم من كل ذلك أنها توفر الفرصة لمحاربة التغيرات المناخية، كما تسمح بتوليد الكهرباء.

تتكون المقبرة المائية من شق فى الأرض بعمق 10 أمتار وبعرض 5 أمتار وبطول 50 متراً أو أكثر، وهى مغطاه بسقف خرسانى يمنع تسرب الغازات الناتجة عن التحلل البكتيرى، ويمكن عمل هذه المقبرة على شكل دائرة طول محيطها 50 متراً أو أكثر وبنفس الأبعاد، ويوجد حائط خرسانى لتحديد بداية ونهاية المقبرة ، حيث يتم رفع الماء من خلف الحائط وضخه إلى أمام الحائط لتحقيق فارق منسوب، وتوجد أمام الحائط فتحة بغطاء محكم تُوضع فيها الجثة برفق حيث ترسو ببطء إلى القاع وعندما تتزايد الغازات فى الجثة بفعل التحلل البكتيرى فإنها تطفو وتسير مع تيار الماء إلى نهاية المقبرة وتستقر فيه حيث تتحلل تماماً وترسو الهياكل العظمية فى القاع، وهكذا بإستمرار.
هذه المقبرة الجماعية تتميز بانها صديقة للبيئة، فهى تسمح بإحراق غاز الميثان بدلاً من إنطلاقه فى الهواء الجوى كما يحدث فى المقابر الترابية التى يتسرب منها هذا الغاز من خلال مسام التربة ويتسبب فى تفاقم كارثة التغيرات المناخية، فغاز الميثان أكثر خطورة من غاز ثانى أكسيد الكربون بنحو 25 ضعفاً، ولا ينبغى أن نقلل من أهمية هذا الأمر لأن معدل الوفيات سنوياً فى العالم يصل لنحو 70 مليون شخصاً، وكلما زاد عدد السكان العالم كلما زادت الوفيات.
يُستخدم غاز الميثان فى تشغيل مولد كهربائى، وهذا يجعل المقابر المائية واحدة من الطاقات الجديدة والمتجددة.
الطاقة الكهربية المُولدة تتحدد بمتوسط عدد الوفيات فى المنطقة التى تخدمها المقبرة المائية، فإذا كان العدد 10 وفيات يومياً، فإن قدرة المولد الكهربى تكون واحد ميجا وات – على أقل تقدير- وهذا المولد ينتج 24000 كيلو وات ساعة يومياً، وهذا يكفى لمد الكهرباء لنحو 8000 شقة سكنية بصفة دائمة.
هذه المقبرة تظل تعمل لسنوات طويلة حتى تمتلأ المقبرة بالهياكل العظمية، وربما تتحلل الهياكل العظمية أيضاً وتتحول إلى مسحوق، بنفس طريقة تسوس الأسنان لأن الماء فى المقبرة يوفر الحياه والتكاثر للبكتيريا التى تتغذى أيضاً على العظام ولكنها تحتاج وقتاً أطول، وإذا تحللت الهياكل العظمية أيضاً بهذه الطريقة فإن هذه المقبرة تواصل العمل جيلاً وراء جيل لعشرات ومئات السنين.
ولمنع تزايد ملوحة ماء المقبرة بفعل تحلل الجثث فمن الضرورى سحب نسبة من ماء المقبرة والتخلص منه فى مجرى مائى أو تصريفه فى حقل زراعى وتعويض نسبة الفقد بماء عذب جديد يتم ضخه فى المقبرة.
نسبة ملوحة ماء المقبرة له أهمية كبيرة، لأن تزايد الملوحة سوف يمنع الجثث من التحلل حيث تتحول إلى مومياوات وهذا يوقف المقبرة عن العمل لأن الجثث سوف تملأ المقبرة فى وقت قصير، ويمكن تقدير نسبة الملوحة المثالية فى حدود 4% إلى أن يقرر المخصوص النسبة المثالية، ويجب المحافظة على منسوب الماء ثابتاً داخل المقبرة.
هذه المقبرة سوف تحتاج إلى مرور ثلاثة أشهر فى بداية التشغيل حتى تصل إلى كامل قدرتها فى إنتاج غاز الميثان اللازم لتشغيل مولد الكهرباء.
ويمكن عمل دائرة بداخلها دائرة أخرى، والدائرتان مستقلتان ويفصل بينهما جدار، فتكون أحدهما مقبرة للرجال والثانية مقبرة للنساء، ولذلك فالمساحة الإجمالية للمقبرة يمكن أن تكون حوال 400 متراً مربعاً (20 متر فى 20 متر) وتشمل مكان المولد الكهربى، كما أن كل هذه المساحة مكشوفة فيما عدا غرفة الدفن للرجال وغرفة الدفن للنساء، فالغرفتان مسقوفتان فوق فتحتى الدفن ولهما جدران حيث يتم تعريه المتوفى أو المتوفيه تماماً، ووضعه-أو وضعها- فى فتحة المقبرة ثم إغلاق المقبرة بغطاءها المحكم الذى يمنع تسرب غاز الميثان.
المضخة التى ترفع الماء من خلف الجدار وتضخه أمام الجدار يمكن أن تكون بقدرة 2 حصان فقط، لأن مستوى الرفع صغير جداً، كما ان منسوب الماء يقل خلف الجدار ويزيد أمام الجدار فى نفس اللحظة فيتحقق فارق المنسوب الذى يسمح بتحريك الجثث الطافية إلى آخر المقبرة، ويمكن تزويد ميقاتى للمضخة بحيث تعمل 10 دقائق ثم تستريح 10 دقائق وهكذا بإستمرار وبدون توقف.
هذه المقبرة لا تتعارض مع تقاليد دفن الموتى لمعظم الشعوب، ويمكن أن تكون من أملاك الدولة أو أن تكون إستثماراً خاصاً بعد أن يحصل المستثمر على التراخيص الرسمية من الحكومة والجهات الدينية، ويحصل المستثمر على مصروفات الدفن من أسرة المتوفى لتسديد أجور العاملين لمقبرة الرجال وأجور العاملات لمقبرة النساء وكذلك المصروفات اليومية بخصوص الماء العذب المستخدم للمحافظة على نسبة ثابتة لملوحة ماء المقبرة، وكذلك لتعويض التكلفة الإستثمارية والتى تشمل الأعمال الخرسانية وثمن الأرض بمساحة 400 متراً مربعاً إلخ، وغالباً فإن أسرة المتوفى سوف تدفع أموالاً قليلة جداً لأن المقبرة تحقق أرباحاً من توليد الكهرباء، بل أن تكلفة الدفن يمكن أن تكون مجانية تماماً بسبب أرباح الكهرباء إعتماداً على سعر بيع الكيلو وات ساعة.، فمثلاً لو كان سعر ك.و.س 10 سنت أمربكى، فإن هذه المقبرة تحقق 2400 دولاراً أمريكياً يومياً.
ويمكن عمل فتحة الدفن بطريقة تسمح بوضع الجثة وفى نفس الوقت تمنع تسرب الغاز، حيث يمكن ان تكون فتحة الدفن محاطة من الداخل بجدران من الجهات الأربعة  فتبدو مثل صندوق بدون قاع، وهذه الجدران الأربعة تتعمق فى الماء بنحو نصف متر، حيث يتجمع الغاز فوق سطح الماء وهذه الجدران تمنعه من التسرب إلى خارج المقبرة.